كم مرة حاولت أن تساعد شخصا عزيزا عليك بالنصيحة والموعظة ولكنك فوجئت بأن نصائحك ليس لها أي أثر؟ وكم مرة استغرقت في تغيير قناعات من حولك لتجد بعد أيام أو أسابيع أن محاولاتك لم تؤت بثمارها بعد؟
لقد بات أسلوب النصيحة المباشر، والموعظة المبطنة أقل تأثيرا فيمن حولنا من زملاء، ومديرين، وأبناء. نعم، فالعالم يتغير من حولنا بشكل سريع ومبهم وأحيانا مخيف، لنجد أنفسنا ذوي تأثير أقل من ذي قبل، وينطبق هذا الأمر بشدة على عالم الأعمال والشركات، فكم من موظف عمل معنا، حاولنا جاهدين تطوير مهاراته أو شخصيته ولكننا وجدنا أن التغيير الذي طرأ عليه لم يصل للدرجة التي تساوي ربع جهودنا ونصائحنا.
من هنا نشأ الكوتشينج – قبل 30 عاما على وجه التقريب – كأسلوب متطور في الحوار يتصف بالتفاعل والعمق، ويهدف إلى مساعدة الشخص الآخر (المستفيد) من إحداث التغيير الذي يبحث عنه ضمن علاقة منهجية، تعاونية، تسعى لتحقيق أهداف الشخص المستفيد – وليس الكوتش – خلال مدة زمنية تتراوح بين الثلاثة أشهر إلى تسعة أشهر، وقد تمتد إلى سنة أو أكثر في بعض الأحيان.
” بات أسلوب النصيحة المباشر، والموعظة المبطنة بات أقل تأثيرا هذه الأيام “
عندما تجد صعوبة في تحقيق ما تريد، أو تواجه عقبات لا تستطيع تجاوزها لمدة من الزمن، وعندما تفقد البوصلة أو تتخبط الخطط المستقبلية أو المهنية لديك، هنا تبرز أهمية الكوتشينج التي تستهدف الأقوياء والطموحين والمتحدين لعقباتهم، لما كما يعتقد البعض أن الكوتشينج للضعفاء فقط! فالضعيف لا يكترث لحلم، ولا يلتزم بخطة، ولا يعنيه الإنجاز، فحياته هي كيفما اتفق.
يتخذ الشخص العادي مئات القرارات يوميا، حيث قدر الباحثون في دراسة لجامعة كورنيل بأن الفرد يتخذ أكثر من 200 قرار يوميا بشأن الطعام وحده! ومع ازدياد مستوى مسؤولياته، يزداد عدد الخيارات التي عليه اتخاذ القرارات بشأنها، وتشير تقديراتهم إلى أن الفرد قد يتخذ آلاف القرارات كل يوم، ولكل قرار عواقب وآثار.
من خلال الكوتشينج، باستطاعة الشخص التفكير بصوت عال وحكيم، يطرح من خلاله كافة التساؤلات التي تساعده في اتخاذ قرارات منسجمة مع قيمه الشخصية، وتحدياته اليومية، وطموحاته المستقبلية. كما أن الحوار مع الكوتش مبني بشكل منهجي على الاستماع العميق لتحديات المستفيد، وماذا يريد؟ وما هي أفضل الخيارات المتاحة؟ ومن خلال الأسئلة المفتوحة، يصبح بإمكان المتحاورين استخراج الإجابات العميقة والمغمورة تحت تراب الأحداث، والتي عادة لا يشاركها المستفيد مع الأشخاص من حوله.
إنّ ممارسات الكوتشينج اليوم تحولت من فن ومهارة إلى علم يترابط مع طبيعة السلوك البشري، والتجربة الإنسانية، لنعرف كيف يتغير الإنسان، ولماذا، ومتى؟ وهي عملية إبداعية تمكن المستفيد من استخراج أفضل ما لديه من مهارات وقدرات، وترفع أداءه مقابل ما يواجهه من تحديات، وتمنحه الفرصة لإيجاد حلول ونتائج ما كان ليصل إليها – لوحده – من قبل.
” الحوار مع الكوتش مبني بشكل منهجي على الاستماع العميق، والأسئلة المفتوحة، والأجندة المححدة، ومتابعة المستفيد، مع وجود رغبة حقيقية وصادقة من الداخل تنشد التغيير وتلتزم به.”
ولعل أهم ما يرتكز عليه الكوتشينج هو تجنب إطلاق الأحكام على الشخص وقدراته، بل الإيمان بإمكاناته التي وهبها الله له، ومحاولة توسيع جوانب التفكير لديه، والنظر للمسائل من جوانب متعددة، وأحيانا خفية.
إن حوار الكوتشينج أصبح من المهارات الجديدة والمهمة التي يفضل (بل يجب) إتقانها من قبل كل معلم، ومدرب، ومستشار، وولي أمر، وقائد. وقد أثبتت العديد من الدراسات والنتائج الميدانية مساهمة الكوتشينج بشكل واضح وكبير في رفع مستوى الثقة بالنفس، وتحسين الأداء الوظيفي، ومهارات الاتصال وغيرها، وصولا إلى تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية.
ختاما، فإن التربية والتنشئة المستقيمة لم تعد تتأثر بشكل كاف بالمواعظ والنصائح المباشرة، وأمست بحاجة للحوار المفتوح التفاعلي الممنهج، القائم على الاستماع والتساؤل الذي يساعد الآخرين من حولنا على استكشاف ما يجول في خواطرهم من هموم، وعقبات، وفرص، وكيف لهم أن يتجاوزوها – بعد الاستعانة بالله – بفهم أنفسهم، وخياراتهم، وأبعاد قراراتهم؟
بقلم : محمد ناهس
نشر في جريدة الأنباء – 6 يونيـو 2023