العصيان الذكي – Intelligent Disobedience

لا تتوقف المناقشات مع الزملاء عن أساليب القيادة وآثارها على المنظومة الإدارية، وكان آخرها عن ظاهرة القيادي المتسلّط الذي يحب أن يُطاع أمره، ولا يُعصى في منظمته، يُستجاب لرغباته حتى وإن كانت خاطئة أو مضلّلة.

ولنا في قصص الآخرين عبرة. ففي عرف المكفوفين (أعانهم الله)، يستخدم بعضهم الكلب المدرّب على المساعدة حتى لا يتعرض الكفيف للخطر أو يُصاب بأي حادث. ويسمى ب “الكلب المُبصر – Seeing Eye Dog “. ويقال أن هذا النوع من الكلاب (أعزكم الله) يتلقى تدريبات متخصصة وتوجيهات محددة لكل نوع من الأخطار المحدقة بالكفيف، ولا ينجح في هذه التدريبات المكثفة إلا ثلث أعداد الكلاب التي تتلقى التدريب! والهدف هو أن يحمي مالكه أو مستخدمه من أي خطر مُحتمل، وتمكينه من اتخاذ القرار الأسلم – نيابة عن المكفوف – في حال أراد عبور طريق مزدحم بالسيارات أو النزول على درجات سلّم حاد أو غيرها من مخاطر. وأُطلق على هذا السلوك “بالعصيان الذكي” الذي يسعى إلى الحماية والمحافظة على السلامة وتوقي الأخطار.

من أهم مبادئ القيادة الذي يستحق التدرب عليه هو الاتباع الشُجاع – Courageous Followership.

وقد تحدث المؤلف إيرا شاليف في كتابه عن تعريفالعصيان الذكي – Intelligent Disobedience” بأنه “فعل الصواب عندما يطلب منك فعل الخطأ !” أو “فعل الشيء الصحيح عندما يتم ممارسة الضغط عليك للقيام بخلاف ذلك”. وما أجمله من تعريف، وما أعظمه من سلوك، نجد أثره في العديد من ممارساتنا اليومية. ذكر شاليف كيف خطرت له فكرة الكتاب عندما كان لديه شخص يقوم بتدريب كلب توجيه (Guide Dog) في أحد فصوله، وتناول عنصرا مُهملاً لكنه أساسي اليوم في صنع القرار الأخلاقي والرأي الرشيد.

في التربية، قد يلجأ الآباء لحث أطفالهم على الطاعة، ولكن المطلوب تحديدا هو تعليمهم ألا تكون الطاعة عمياء، كما علّمنا الهدي النبوي “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. حتى إذا كبُر الطفل وأصبح مميزاً، أدرك قيمة الرأي وعظم استقلالية القرار، وربما فهم معنى المعارضة المفيدة حتى لا ينساق الطفل أو الشاب خلف كل ذي ضلال، ويحمي نفسه من أن يكون مطيعاً صرفاً.

وهذا ما حدث تحديدا عندما “مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بالصبيان وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا ووقف؛ فقال له عمر: ما لك لم تفرّ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخافك، ولم يكن بالطريق ضيق فأوسع لك. اهـ.”  وفي هذه الإجابة الفطنة وسرعة البديهة وسداد الرأي لقائد كامن، ولاحظ احتواء أمير المؤمنين لرأيه وعدم لومه أو توبيخه.

عوداً إلى فكرة المقال، فإن الممارسات القيادية لدى بعض المسؤولين في المنظمات قد تبلُغ حداً مفرطاً في الرغبة بطاعته، وعدم الاستماع لآراء مخالفيه، مما يعزز من سيطرته على المنظمة، فينتج لنا مع الوقت أشباه قادة، ليسوا إلا نسخة مشوهة منه أو من أنفسهم! وهذه الممارسات تعاكس مبدأ قيادياً مهماً في تدريب القادة وهو “الاتباع الشُجاع – Courageous Followership “. الاتباع الذ يتطلب تقديم دعم حقيقي لمن يشغلون مناصب قيادية والحرص على بناء علاقات معهم تسمح لأولئك الذين يشغلون أدوارا تابعة بالتحدّث بصراحة وحيادية عند الحاجة لمنع أو تصحيح إخفاقات القيادة.

ويمكنني القول ولو أنها جملة ثقيلة الوطأة على مسامع القياديين بأن “كل قيادي كفيف!”. ويحدث هذا عندما يتخلّى القيادي عن إحاطة نفسه بالأتباع الأمناء، والمستشارين الناصحين ممن يصدقونه القول، فيجنّبونه الخطر المحدق، ويدفعونه دوما نحو القرار الرشيد. ومن الضرورة بمكان أن يحيط القائد المحنّك نفسه بثلّة من الأشخاص المدربين بعناية، والمؤهلين بامتياز في قرع جرس الإنذار أو صافرة الحذر (whistleblowers) عند كل قرار خاطئ، أو توجّه استراتيجي مُبهم غير محمود العواقب.

العصيان الذكي هو ممارسة صحية وحيادية، وثقافة مؤسسية قيادية نادرة في المنظمات.

والأمثلة كثيرة في القطاع الطبي وغيره. تخيّل لو أن ممرضا أو صيدلانياً عصى أوامر الطبيب في إعطاء دواء لمريض بالقلب وهو يعلم بأعراضه الجانبية الخطيرة على القلب والأوعية الدموية، والتي قد لم ينتبه لها الطبيب لحظة القرار لانشغاله أو نسيانه. ماذا لو رفضت الممرضة أمر الطبيب حفاظا على سلامة المريض؟ ماذا لو وافق الصيدلي وصرف الدواء، وتم استدعاؤه لاحقا للتحقيق الطبي من قبل جهاز المسؤولية الطبية؟! 

اقترح المؤلف شاليف “أن يجد الأفراد توازناً مناسباً للتكيّف مع أي نظام له قواعده وسلطاته، وفي نفس الوقت على تحمل المسؤولية عن أفعالهم.” ويوضح كيف أن تبني سياسة ” فقط اتبع الأوامر ” قد تتسبب بأضرارٍ جسيمة للآخرين نتيجة للقرارات الخاطئة المترتبة عليها، وأن ثقافة  “نعم أوافق”  المنتشرة في المنظمات، سواء كانت في مستشفيات أو شركات طيران أو حتى في القوات المسلحة، قد تنطوي على نتائج وخيمة.

وأختصر بالقول أن “العصيان الذكي” هو ممارسة صحية وحيادية وثقافة مؤسسية قيادية تستحق أن تُزرع وتُروى وتُثمر في عقل كل قيادي، وفي قلب كل منظمة مميّزة، وهي رسالة نوجهها لتتماشى مع مواطن الغد، المواطن الصالح المُصلح.

ويبقى تساؤل: إن كان هناك خياراً ثالثاً أحياناً ويعطينا نتائج أفضل، مساحة برزخ بين “الطاعة” أو “العصيان”، مساحة لا يمكن تصنيفها، تريح ضمير التابع والمتبوع ؟