لعل الحاضر يستحي أن يدوّن نفسه.
أراه في كل مرة يمنح هذا الحق الأصيل لصديقه المستقبل ليتحدث بالنيابة عنه ويوثّق حقبة الماضي بعد مدة من الزمن وبكل هدوء.
يبدو أن الحاضر يبغض ضغوط الساعة، وقيود اللحظة، ويفضّل مرور الوقت حتى يبرح الحضور المكان وتتلاشى المجاملات. عندها، يتمكن من ارتشاف كوب قهوته المفضلة ويمسك قلمه بكل استقامة!
كأن الحاضر عاجزا عن تدوين نفسه، فكيف للمرء أن يرى نفسه وهو بداخل الإطار؟! يخشى الحاضر أن يزعج أصدقاءه ” كالآن وفي الحال “. هو يدرك أن أحدهم أصم ، والآخر أبكم. لكنهم أصدقاءه الذي لا ينوي التخلي عنهم بحجة تعريفهم لأنفسهم وتسليط السهام على عيوبهم. وقلّما بيّنت عيبا لأحد ولو بحسن أدب، إلا رآك أحد معايبه! الوقت سيمضي على أية حال، ومن لا يريد أن يرى عيبك، لم يترك لنفسه بديلا سوى تمجيد اللحظة والرقص مع الحاضر.
الزمن ألعوبة بيد الراوي ، برغم أن الكلمة سلاح ، والجملة مدفع ، لكن الراوي لا ينوي استخدام كل أسلحته أو يرمي بأهم ذخيرته. لأن الحاضر يوحي للمستقبل بأنه مدة ممتدة فيتسلل ولاحرج. والمستقبل أمد مفتوح لا ُيطوى مع استمرار الزمن.
لكل حاضر رجال يحبونه وينصرونه..طالما أن شخوص المستقبل لم تطل بعد، وليس بمقدورهم إلا كسب الوقت والمال والسمعة وإن كانت سيئة. لعلهم يدركون أن بعض سلعتهم أو سمعتهم مزيف، لكن لا ضير. فالقاعدة المفضلة لديهم أن النسيان سيد الموقف، وما يكتبه الراوي هو ما سيقرأه طفل المستقبل..إن قرأ !
شوهوا حاضرك ولا بأس لديهم من تشويه مستقبلك وتلطيخ ماضيك. كل ما يعنيهم هو فصل كل زمن عن الآخر ، حتى تتباعد الأجساد ، وتتلاشى معها الذكريات البائسة منها بالذات.
احذر الكتاب والمؤلفين والعازفين على تمجيد الحاضر ، فربّما تم إغراؤهم بالمكوث حيث هم ونيل المتعة اللحظية من تحت الوسادة وبعض الصيت رغم ما فيه من دخن. نسي هؤلاء أن الحاضر وزملاءه قد هيئوا الأمر حتى يبقى الجميع (أو الأكثرية) في مساحة من الزمن تلهو وتعبث، وبأن الزمن كفيل بوأد الحديث عن الحاضر دون النظر في مآلات المستقبل.
لا تكن منهم أو معهم ، واعلم أن الأزمان تلعن بعضها بعضا إن كذبت إحداهن على الأخرى!