شيئا فشيئا يتضح لي أن ثمة عقولا لا تخاطب حاضرها وماضيها فحسب، بل تجتاز حواجز الأزمنة وحيز المكان لتحاكي شعوب المستقبل، أصحاب الحقبة القادمة، عن الدستور أتحدث. فربما فهم الأولون بعض معانيه وحدود حروفه وحاولوا قراءة جمل عصية فيه، أو لعل اللاحقين أدركوا أبجدياته وكيفية الاستشهاد بقواعده ونظمه.
أقول ربّما، لأنني بتّ متيقنا أنه لم يكتب لجيلٍ ماضٍ أو حاضر، بل رُسم ونُقش ودُوّن لأجيال قادمة هي من سيدرك أنه طوق نجاة حقيقي، وكنز موجود مجحود، وسلاح يضمن سلامة الاستقرار الوطني والإرث التاريخي والمستقبل الواعد.
في ثناياه وجبة غذائية دسمة تشبع البطون الجائعة والنفوس الطامعة، لكنها رغم قيمتها الغذائية المتكاملة لا يمكنك تقديمها لطفل رضيع كي لا تؤذيه وتأتي بآثار عكسية عليه! لعل المجتمع كان ومازال ذلك الجائع المتشوق لكنه لا يستطيع هضم هذه الوجبة الساخنة الدسمة، فيتناول قضمة من هنا ولقمة من هناك، ورائحتها الزكية تنعش كل من اقترب منها.
من قال إنها أعدت للحاضرين اليوم على المائدة؟! وهل نعلم أن جهازهم الهضمي قادر على تناول الوجبة كاملة وضمن الوصفة المكتوبة؟! لم تدخر الأجيال السابقة والحالية جهداً في تفسير وتدوين كل ما يخص تجربتهم المشوقة (والمشوكة أحيانا) معها، أما فصول التجربة فلم تكتمل بعد.
في ثناياه وجبة غذائية دسمة تشبع البطون الجائعة والنفوس الطامعة، لكنها رغم قيمتها الغذائية المتكاملة لا يمكنك تقديمها لطفل رضيع كي لا تؤذيه وتأتي بآثار عكسية عليه!
مازالوا يدونون أدق تفاصيلها كي يأتي جيل واع يوماً ما ويقرأ المكتوب ويعاين تجربة الأولين، فيعيد قراءة المشهد ويفك أسراراً لا تنبغي إلا لجيله. عندها فقط، يستطيع تحويل معنى الكلمات وروح الأسطر إلى مواد عملية وتطبيقية شاملة، تعين أي مسؤول في قراره، وتنقذ الملهوف في تحليلاته، وتمكن الحق وأصحابه من بسط نفوذهم وتفعيل أدواتهم الدستورية. وذلك كله كي ينعم الجيل حينها بحياة كريمة عادلة متوازنة، يشار لها بالبنان ويشهد لها بين الأوطان، وترتقي بحرية الإنسان.
مع الوقت أستيقن أن من تبنى فكرة الدستور وأوجد الحيز لتطبيقه كان يحلم بمستقبل وطن واعد، ويرسم واقعا غير منظور لن تدركه إلا أجيال تلو أجيال. فأصحاب الرؤى وخاصة أولئك السابقين عصرهم والحالمين لمن بعدهم هم قلة في كل زمن، ويندر أن يتم لهم التمكين. عبدالله السالم، ليست قبة فقط! بل قبلة لصناع الأوطان، وقمّة سمت على حاضرها وماضيها من أجل مستقبل مبهر ووطن عظيم.
بقلم: محمد ناهس. نشر في جريدة الأنباء 17 يونيو 2021