نظرية انتشار الابتكار وأثرها في تعزيز حملة التطعيم.

مقال الأنباء – 18 مارس 2021 – مشاهدات: 8433

لم يعد لدينا متسع من الوقت لانتظار أن يركب الجميع قطار التغيير وأن يلحق بقافلة التطعيم.

كيف يمكن تسريع عجلة حملة التطعيم وإنقاذ أكبر عدد ممكن من أولئك المعرضين للخطر؟ من هنا تبرز أهمية الحديث عن قيادة التغيير والتي غالباً ما نستخدمها في عملية التغيير المؤسسي أو ربما السياسي، ولكن ماذا عن التغيير المجتمعي الذي هو لُبّ التحول ونبض الانطلاقة؟ تعتمد قيادة التغيير على نظريات متعددة وتخصصات متداخلة مثل علم النفس الاجتماعي وعلم السلوك والتخطيط الاستراتيجي، ولا ريب، فعملية التغيير لا تحدث في بيئة منعزلة.

في مقال اليوم، أتطرق لأحد أشهر مفاهيم التغيير وهي نظرية روجرز لـ «انتشار الابتكار» التي تتناول كيفية وأسباب انتشار الأفكار الجديدة أو التقنيات الحديثة. قام إيفرت روجرز، وهو أستاذ لدراسات الاتصال، بنشر هذه النظرية لأول مرة في 1962، في كتابه «نشر الابتكارات Diffusion of Innovations»، والتي تم دراستها وقياسها في مئات الدراسات العلمية وفي مجالات مختلفة، ومن هذه الدراسات ما تطرق إلى أسباب انتشار أو مقاومة حملات التطعيم في بعض البلدان.

ولتبسيط الفكرة، عندما تحاول أن تقود تغييرا، فإن هذا التغيير قد يأخذ أشكالاً متعددة كطرح منتج جديد أو نشر فكرة أو نظام أو خدمة جديدة. وفي كل هذه الأشكال، يتطلب انتشارها أن نفهم مراحل ما سمي بـ «منحنى روجرز لانتشار الابتكار» وهو أحد المفاهيم المعروفة في عالم التسويق والابتكار.

ويتكون هذا المنحنى من خمسة فئات (أو أقسام) تبعا لقبول الناس وتبنيهم للمنتج أو الابتكار الجديد، وتتوزع بشكل طبيعي آخذة شكل منحنى الجرس (Bell Curve). نسلط الضوء عليها بشكل مختصر لكي تساعدنا في فهم سرعة إقبال الناس على فكرة التطعيم أو اللقاح، كونها تمثل مفهوما جديدا ومتلازما مع أزمة كوفيد المستمرة حتى الآن.

الفئة الأولى: المبتكرون (Innovators)، وهم الأشخاص الذين يحبون تجربة الأفكار الجديدة سواء من منتجات أو خدمات، وهم نشطون في البحث عن المعلومات الأحدث في وسائل الإعلام، ويغلب عليهم حب المغامرة والرغبة في التميز. تشكل هذه الفئة طبقا «لنظرية روجرز» في منحنى انتشار الابتكار ما يقارب 2.5% فقط من طيف المجتمع.

الفئة الثانية: الأوائل (Early Adopters)،
وهم أيضاً يحبون تجربة الجديد ويتابعون بسرعة ما جربه البعض من تقنيات أو منتجات، ثم يقبلون. هؤلاء يمثلون حوالي 13.5% بحسب النظرية.

الفئة الثالثة تسمى بالأغلبية المبكرة (Early Majority)، والتي تقبل التغيير ولكن بعد أن يعاينوا نجاح تجربة فئتي المبتكرون والأوائل السباقين. غير أن نسبتهم قد تصل إلى 34% (أي ثلث المجتمع). وإذا احتسبنا نسبة الفئات الثلاثة الأولى مجتمعة سنجدها تصل إلى 50% فقط. وهنا تبرز الحاجة إلى الحديث بجدية عن أثر القسم الرابع والخامس في استكمال معدل الانتشار أو لنقل وصول «التطعيم المنشود» لمعظم شرائح المجتمع.

الفئة الرابعة: الأغلبية المتأخرة (Late Majority) وهم لا يقبلون على التغيير إلا بعد أن تقبله أغلبية واسعة. بمعنى أن انتشار الفكرة أو الخدمة وقبولها على نطاق واسع هو ما يحركهم حتى وإن تأخر الزمن، وسموا بالأغلبية لأنهم يشكلون 34% أيضا من المجتمع غير أنهم متأخرون في تبني الأفكار الجديدة.

وتبقى الفئة الخامسة: المتقاعسون أو المقاومون (Laggards) وهم أولئك الذين يكرهون التغيير ويتجنبونه بصفة عامة، وربما يضطرون لقبوله على مضض، وتقدر نسبة المتقاعسين بحوالي 16%، ولا شك أن هناك فئة معينة في أي مجتمع لا ترغب بتبني الجديد وربما يستمرون في خانة «غير المتبنين» له.

لماذا هذا التباين بين فئات المجتمع؟ حدد روجرز في نظريته الاختلافات الرئيسية بين المتبنين الأوائل والمتبنين لاحقا، وعزا بعضها إلى ما يتعلق بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والسمات الشخصية والسلوكية، حيث يغلب على المتبنين الأوائل حصولهم على المزيد من سنوات التعليم، ولديهم مستويات أعلى من معرفة القراءة والكتابة، وكذا الحالة الاجتماعية والاقتصادية، ويمتازون بدرجة أكبر من الحراك الاجتماعي مقارنة بالمتبنين المتأخرين، وهنا بيت القصيد، فالفئة الرابعة والخامسة التي إن لم تقبل على التطعيم فإن أقصى ما سنصل إليه من مناعة مجتمعية هي 50%، رغم إدراكنا بضرورة تجاوز عتبة الـ 60% وربما نسبة الـ 70%.

من التطبيقات المستفادة من هذه النظرية هو أن من يتبنى التغيير كبداية هم المجاميع الصغيرة المتمثلة بالفئة الأولى والثانية. وقد شاهدنا وقرأنا ما واجهته في الأشهر الماضية من انتقاد وتشكيك حول مأمونية اللقاح وسلامته. ولعل حرب التطعيم ازدادت ضراوة مع انتشار فكرة المؤامرة التي روج لها عدد لا يستهان به ممن تبوأ مراكز اجتماعية أو فنية أو حتى طبية، وقام بالتأثير سلبا على جموع الناس.

درس آخر يسترعي الانتباه وهو ضرورة عدم إهمال «المقاومين والأغلبية المتأخرة» بل يجب أن تصلهم الرسالة في عقر دراهم عبر الطرح الإعلامي الرزين والأسلوب العلمي الرصين. ولا يمكن أن نقيس النجاح الإعلامي أو التثقيف الصحي عبر إقبال فئة «المبتكرون والأوائل» فهؤلاء على استعداد فطري لتقبل كل جديد وتبني الأفكار المطروحة لأول مرة وهذا هو الدرس الثالث، فالأساليب الدعائية والتسويقية التي ألهمت تلك الفئات على تجربة اللقاح مع الصفوف الأولى، هي ليست بالضرورة ملائمة وملهمة للفئات الأخرى المتأخرة. ويبرز هنا دور فئة الأفراد المبتكرين والأوائل في قيادة الرأي العام في تقبل فكرة التطعيم والإقبال عليه، وهم أيضا قادرون ـ طبقا لاستنتاجات روجرز ـ على التأثير على المتأخرين والمتقاعسين لأنهم يتأثرون بشكل أكبر بدائرة علاقاتهم الاجتماعية إذا ما قورنت بالرسائل الإعلامية العامة.

وعليه، حري بنا إشراك المختصين في مجالات الإعلام الجديد والتسويق والابتكار والعلوم السلوكية والسياسات الصحية ودمج خبراتهم جميعا أملا في إيجاد أفضل سبل التوعية والتحفيز وأكثرها تأثيرا وإبداعا، وربما يتطلب ذلك مراجعة بعض السياسات العامة لنصل لتلك الفئات المترددة، والاستماع إلى مخاوفهم ومعالجتها بشتى السبل المعرفية، والأمر برمته بحاجة إلى فهم أهم الممارسات في قيادة التغيير، للوصول إلى النتائج المرجوة من حملة التطعيم كما ونوعا وفي التوقيت المناسب.

ومما سبق، يمكن للقارئ الكريم تحديد الفئة التي ينتمي لها ـ من الفئات الخمس أعلاه ـ ليحدد موقعه وأثره الحالي في ظل هذه الأزمة. ولا ننسى طبيعة وأهمية التركيبة المجتمعية الحالية، حيث يشكل المقيمون والأجانب 70% من إجمالي السكان في الكويت، ولن تتأتى المناعة المجتمعية إلا بهم ومعهم.

وختاما، فإن للطبيب المميز تأثيرا على مرضاه ومراجعيه، وللمعلم المحبوب قدرة التأثير على طلبته وزملائه، وللمثقف مكانة اجتماعية مرموقة تمكنه من حث أقربائه وأصدقائه ومتابعيه، كما للمدير القدوة أثر على موظفيه وعملائه. ودمتم بعافية.